Modawenon

موضوع يستحق القراءة : برشيد بين المواطنة والإرعاء

رفع الصور
رفع الصور

ذ
انفردت الانتخابات المحلية، التي شهدتها برشيد، منذ سنة 1976، بصناعة الأضداد البشرية، وهم أشخاص بدون برامج، يتداولون السلطة فيما بينهم، بداخل حلقة مفرغة، لا تقود إلى التاريخ المكتوب بأحرف من ذهب. تلتف حولهم، عند الحاجة، نماذج ينعتهم محمد باي صحافيا ب: ” أصحاب العباسية، يحملون أوراق اعتمادهم ويتابعون التسخينات في انتظار الضمسة المقبلة” ( صحيفة الشاوية، عدد 64-65 اكتوبر 2014). 
بعيدا عن فكرة “العباسية”، نسبة إلى الصوفي أبي العباس السبتي، من القرن السادس هجري، وصاحب مذهب في الجود والإحسان، يحث على المشاطرة، أي “العباسية”، وتعني مقاسمة الأثرياء لأموالهم وممتلكاتهم (هنا أصواتهم) مع أبناء السبيل والمقطع بهم الحبل، فالجدلية العقيمة لتناوب الأضداد على السلطة تذكرنا بمقولة هيغل في كتابه “العقل والتاريخ: ” العنصر الجديد الذي يحل محل العنصر الذي انهار، ينهار هو أيضا بدوره، ليس هناك أي تقدم، وليس كل هذا الاضطراب سوى تاريخ لا تاريخي”. 
ظهرت الصناعة الانتخابية للأضداد البشرية أولا في الدوائر الانتخابية الصغرى التي يقترع فيها لمرشح واحد. فأدى ذلك إلى بروز ثنائية حزبية، ونجم عنه تحويل بعض الدوائر الانتخابية إلى اقطاعات محسومة سلفا لفائدة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ضد غريمه الحزب الوطني الديموقراطي، مثل القلاع الاتحادية الحصينة للحي الحسني، وآرلو، والدرب الجديد، والقيسارية، والمنى.
ومع مطلع الألفية الحالية، تم الاستغناء عن هذا النظام واستبداله بالدائرة الانتخابية الواحدة، كما تم تعويض الاقتراع لمرشح واحد بالاقتراع للائحة بالأغلبية النسبية، وذلك نزولا عند رغبة الأحزاب السياسية. غير أن تطبيق هذا النظام الجديد نجمت عنه سلبيات عديدة، منها التباعد الشخصي بين الناخبين والمنتخبين، حيث أتثبت التجربة على أن بعض المنتخبين يجهلون هوية المصوتين عليهم، لا بل حاجيات ومشاكل الدوائر الانتخابية التي يدعون الدفاع عنها، لعدم ارتباطهم انتخابيا بمناطق محددة. فأصبحنا نجد شباب برشيد الذي يمثل مستقبلها غارقا في واد، والمنتخبون الدين أدركوا الثراء الفاحش في سن الشيخوخة يستحمون في واد آخر. ” ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض، ولكن ينزل بقدر ما يشاء، إنه بعباده خبير بصير” (الشورى). 
شباب برشيد يعبرون بسخرية، من خلال شبكة التواصل الاجتماعية، عن امتعاضهم العميق تجاه رأس الهرم المسئول عن تشويه المدينة وتدمير شعارها. يسأل أحد الشباب صاحبه عن عنوان سكنه، فيجيبه: “الزنقة الأولى، الحفرة الخامسة، الباب القهوي، الطبقة الثالثة”. وآخر يسأل: ” ما رأيك في المجلس البلدي؟”، فيجيبه: ” الله يطيرهم بحال ما طارت السبولة من باب العمالة”. 
الضرس لا يزال منه صاحبه في ألم وأدى حتى يعمره أو يفارقه، فما بالكم والأسنان الأولى مسوسة، تشوش على القبلة؟ الحل: فم آخر . لا جديد يذكر في السجل التاريخي للمجلس الحاضر غير قرقبة الناب، وأسماء تظهر لأول بالمدينة يطلقها الحجاج هنا أو هناك على بعض الأزقة بالتجزئا ت الجديدة، مثل: زنقة بئر علي، زنقة أجياد، زنقة المزدلفة، الخ. لو لم يكن رياض الموتى يحمل اسم ” مقبرة الرضوان”، لسميناه لكم في دورة استثنائية “بقيع الغردق”.
يحتاج التفعيل الناجع للنظام الانتخابي الجديد إلى أحزاب منظمة تمتلك قواعد شعبية واسعة. وهذا ما تفتقد إليه مدينة برشيد في الظروف الراهنة، بعد الانهيار الكارثي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وخيبة الأمل المعلقة على عذرية حزب العدالة والتنمية. ناهيك عن المنعرج الذي سلكه الفرع المحلي لحزب الاستقلال بتحوله إلى ” منتخب لقدماء اللاعبين المحترفين الخائبين”، وهم أصحاب المال المرشحين سابقا في أحزاب كارتونية . ما ظلمونا ولكن النضال التاريخي لأخينا سعيد العثماني يظلمون، فعن أي حماية سياسية في ترحالهم الجديد يبحثون؟
من دروس الماضي الملقنة لأصحاب المخزن في مغرب القرن التاسع عشر، ما يلي: ” لا تستبدل حصانك وأنت وسط النهر، لا تغير وجهة سلاحك وأنت في قلب المعركة”. ولذلك، لما أحس المهدي المنبهي وزير الحربية (العلاف)، وهو على رأس قوات السلطان مولاي عبد العزيز، بانقلاب موازين القوى لصالح المفتري بوحمارة، ترك أرض المعركة بتازة، وطلب رخصة الذهاب لحج بيت الله الحرام. ولما بلغ أرض مصر حصل على الحماية البريطانية. ثم بعد أربع سنوات، نجده يحتل المكانة الأولى في مخزن السلطان مولاي عبد الحفيظ. وأما المدني الكلاوي، باشا مراكش، فاشترى حق العودة من أرض المعركة، وركب البحر إلى مرسيليا حيث طلب من هناك الحماية الفرنسية. و بعد مرور أربع سنوات، أصبح هو الصدر الأعظم في النظام الجديد، بعد تزويج بنته للسلطان مولاي عبد الحفيظ. يا لسخرية الأقدار، عبد السلام برشيد، قائد محلة الشاوية، لم يغير بل قتل في المعركة. ونجا رفيق السلاح، عيسى بن عمار، قائد محلة عبدة، وأصبح وزيرا للحربية في النظام الجديد. 
يقول محمد باي في حق ضيوف السياسة المراهنين على الترحال لتحقيق طموحات شخصية: “أعرف كما تعرفون بعض السياسيين المقطعين، لا تاريخ ولا فصل ولا أصل، بدون أفكار أو أهداف يركضون متلهفين وراء ” الكبال” طمعا في الجاه والمكانة والممتلكات. أعرف كما تعرفون أن الحزب هو الحضن الذي يتخرج منه السياسيون، حيث تنمو الأفكار والمفاهيم، وتسطر فيه البرامج والحلول، فيا للأسف مقرات الأحزاب إما موصدة على الدوام لا تأطير ولا تسيير، تفتح كراجاتها عندما يسخن الطرح…” ( صحيفة الشاوية، عدد مزدوج 64-65 اكتوبر 2014)
وفي سياق آخر، يضيف محمد باي: ” ليس من غريب الصدف أن يخاطب رئيس مجلس سياسي ومعه أغلبيته المباركة على الدوام، معارضا انتقد قرارا في إحدى الدورات، قائلا: ” أنت كدير السياسة”. لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، إن الانتخابات أداة الديموقراطية في اختيار السلطة، ولكنها ليست الديموقراطية. فقد تكون أدة سلطات الاستبداد السياسي الحديث أيضا. لعل السيد الرئيس المنتخب يمارس السياسة كفعل وليس كقيمة. وأغلب الظن أنه لا يخضع لمنطق السياسة، بل لمنطق آخر غريب عنها، نسميه منطق “الرعية”، ويسميه محمد باي، منطق ” الكارطة البلدية، الكبال ديما باب، السوطة ديما غاملة، والكواترو براطو”. أو ليس الكواترو من العوام السفلة ، يمشي على أربع، والسويطة امرأة بدون رأي؟ 
إن الديمقراطية وليدة تحولات عميقة وطويلة الأمد، تدخل في صلب العلاقات بين الأفراد والجماعات، وتشكل سلوكا اجتماعيا وسياسيا قائما على المساواة واحترام حقوق الإنسان وحريته. فقد سبق لنا القول في موضوع ” برشيد والحب بالقلب البارد”، بأن وجوها تشابه علينا حبها للبلاد مع تربية الخرفان، وكنا عنينا بذلك، الاختلاط في ذهن سيادة الرئيس بين حبه الكبير لوطنه الصغير والتعامل بالتحقير مع شعبه بعقلية القطيع. نحن نعتقد أنه يجد صعوبة في التمييز بين مفهوم المواطنة ومفهوم الرعية، الكلمة التي تعني في اللغة العربية الماشية والقطيع من الأكباش. لا ضرر، فإذا كانت صورة المرأة الجميلة في الغزل العربي مستوحاة من واقع البيئة الصحراوية، وهي ظبية وعيناها تعني المها، فإن صورة الزعيم التي تستمد ملامحها من نفس البيئة تعني الراعي، وكل راع مسئول عن رعيته. والزملاء؟ إن كلمة زميل تعني الذي يركب مع صاحبه على بعير واحد. لكن الأمر لا يستقيم على هذا النحو في تدبير الشأن العام، إذ لا ينصح بتقاسم هيبة الرئاسة مع أي حليف كان، لأن في القسمة الفساد، والآية الكريمة ملؤها العبر: ” لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا” ( أي السماوات والأرض).
ينبغي التوضيح أن المواطنة والرعية مفهومان متناقضان، متعارضان ثقافيا واجتماعيا وسياسيا. الأول ينتمي لعصر ابن المقفع، الأب الروحي المؤسس للأدب السلطاني، بينما الثاني حديث العهد في لغتنا السياسية، لا يزال برنامجا في طور الإنجاز، ولم يصبح بعد واقعا معاشا.
في كثير من المناسبات ترى بعض فعاليات المجتمع المدني يعلقون يافطات كبيرة قبالة البوابة الرئيسية لمقر العمالة ، يعلنون من خلالها إهداء أنشطتهم لسلطة المجلس البلدي أو العمالة. يفعلون ذلك مثل أدباء السلاطين، في العالم العربي وبلاد فارس، خلال القرون القديمة، عندما كان هؤلاء الأدباء يهدون إصداراتهم الفكرية لمن بيده الأمر. يطرح هنا السؤال حول علاقة المجتمع المدني بالسلطة وحاجته واحتياجه لرفقها وإحسانها، كما هو شأن الراعي مع قطيعه والأب مع ابنه. إن التبعية المطلقة أحد الأسباب التي جعلت التاريخ العربي الإسلامي يتجاهل احتقارا ما يدعى بالرعية، أو العامة والدهماء، أي الشعب أو المجتمع المدني بالمفهوم الحديث للكلمة. فما هي المساحة الفاصلة بين الإرعاء والمواطنة؟ الجواب: الوعي. إن التاريخ الحقيقي للإنسان لا يبدأ إلا مع ظهور الوعي المتقدم نحو الحرية، خاصية الإنسان التي تميزه عن الحيوان، يقول هيغل.
تتبعت مؤخرا حوارين على موقع ” برشيد الغد”. الحوار الأول للسيد نور الدين عبقاوي حول تنظيم مهرجان العيطة، والثاني للصديق محمد الرويمي، زميلي القديم في الدراسة بثانوية ابن رشد، حول موضوع الأنشطة الرياضية التي يتولاها ببرشيد. كان السيد عبقاوي، وهو صحافي صدامي، يحتج على الحرمان من المنحة بسبب الاختلاف السياسي، وكان السيد الرويمي، وهو أستاذ رياضة متقاعد، يمدح ويلعب على المعنويات لربح المباريات. هنا وجدت نموذجا لفكرة المواطنة متجلية في مقولة ” ما ضاع حق وارءه مطالب”. وهناك وجدت استمرارية الإرعاء عبر التعامل بمقولة و “إن شكرتم لأزيدنكم”. أو ليست الديمقراطية وليدة تحولات عميقة وطويلة الأمد؟

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق