Modawenon

القيم الديني والسياسة (مشكلة المنع بين الحق والتاريخ)

رفع الصور
رفع الصور
القيم الديني والسياسة (مشكلة المنع بين الحق والتاريخ)
بقلم: رشيد ظريف
إن الناظر إلى واقع الشعوب المتقدمة يجد أنها تتحرك وتخطط لسياساتها العامة وفقا لمبدأ "حتمية التطور التاريخي"، فالعقل والتاريخ والحرية عناصر ثلاثة، يؤدي تفاعلها إلى حركة تقدمية تطورية للتاريخ. وهكذا، فنزوع العقل الجزئي إلى التحرر يؤدي إلى تحولات تاريخية كبرى يحدثها صراع العقل الجزئي ضد قيود الجهل والسيطرة في بحثه المستمر عن الحرية. ويعتبر ظهور الدولة المدنية أبرز تطور عرفه الإنسان في العصر الحديث في نضاله ضد القهر والتسلط.
تكون الدولة المدنية (في نظر هيجل) موضوع تجلي للعقل الكوني بمقدار خضوعها للمبادئ العقلية، والسياسة هي المجال الأكثر تجسيدا للفعل العقلاني، وهي السبيل الأقرب لتحقيق "الحدث التاريخي" ومن ثمة إحداث التطور. وعليه، فكلما كانت الدولة أكثر عقلانية في سياستها كلما أثرت في حركة التاريخ وكانت متزعمة ومتقدمة، وكلما قلت عقلانيتها كلما تخلفت عن حركة التاريخ التقدمية وسقطت في شرك التخلف والرجعية.
ولا ينطبق هذا الحكم على الدول فقط، بل حتى المؤسسات تخضع لمنطق هذا القانون العقلي العام، فوجود مؤسسات لا تساير حركة التطور التاريخي في دولة معينة يجعلها مهددة بالجمود، نظرا لعدم قدرتها على مسايرة تطور الأفراد الذين تتغير عقلانيتهم بفعل احتكاكهم بالواقع السياسي والاجتماعي.
من المفروض أن السادة أصحاب القرار المسئولين عن تسيير الشأن الديني بالمغرب يعرفون جيدا علاقة التاريخ بالعقل والدولة والحرية باعتبارهم مسئولين عن إدارة وتسيير قطاع غاية في الأهمية، من حيث أنه يشكل الركيزة التي يقام عليها استقرار البلاد، مما يستوجب أنهم يدركون جيدا أن إبعاد القيم الديني عن دينامية الواقع الاجتماعي بمنعه من المشاركة السياسية سيجعله عنصرا غريبا عن المجتمع، ويعيقه عن مسايرة تطور المجتمع الذي يسهر على إرشاده وتوجيهه نحو الأصلح. فإلى متى سيستمر الأفراد في تقبل إرشاد شخص يعيش في تاريخ مغاير لتاريخهم؟.
إن النتائج السلبية التي تترتب عن منع القيم الديني من السياسية سواء بالتوجيه أو المشاركة، تمس الدين بقدر ما تمس السياسة، ففيما يخص السلب الذي يلحق الدين، يتعلق الأمر بفقدان أفراد المجتمع بالتدرج، الثقة في خطاب ديني تقليدي يتخلف كل يوم أكثر عن مواكبة تطور عقلية الأفراد بسبب تعنت المؤسسة الرسمية وإصرارها على جعل رجل الدين ينعزل عن المجتمع، لينشغل في إنتاج خطاب ديني منغمس في مناقشة مشاكل لا علاقة لها بالحاضر المعيش.
هذا عما يلحق الدين جراء إبعاده عن الواقع التاريخي المتحول والمتغير، أما عن الخطر المحدق بالسياسة في مجتمع لا يؤمن بالعقل العلمي كضامن أخلاقي، فيتمثل في الفصل الممنهج بين الأخلاق التي مصدرها الدين، وبين السياسة التي هي فعل عقلاني يعتمد البراغماتية. فالحكومات الاستبدادية في الدول العربية المسلمة لم تعمل على تثبيت أسس العقلية العلمية التي تجعل الأفراد ينساقون للخطابات العاقلة، مما من شأنه أن يحد من الفساد والميوعة السياسية، ولهذا فمن الضروري أن يكون هناك تدخل للدين باعتباره أخلاقا اجتماعية في العملية السياسية، وليقوم بدور المرشد والموجه للعموم من أجل الابتعاد عن الفساد السياسي وعدم المتاجرة بمستقبل الوطن وعدم مساندة المفسدين المتاجرين بمصالح الوطن وكرامة المواطن.
إن منع رجل الدين من إقحام الدين باعتباره أخلاقا في العملية السياسية ومن ثمة تخليق الحياة السياسية، يساعد على المحافظة على الوضع السياسي الراهن المتسم بالفساد وغياب الأخلاق، لتبقى الدولة التقليدية في منأى عن خطر دعوات التحرر والمساواة بين الجميع، التي لا تجد مكانا لها بفعل الفساد السياسي وبفعل احتكار العملية السياسية من طرف الأميين والانتهازيين والسماسرة.
والسؤال الذي يطرح نفسه في الموضوع هو: ما الذي يمكن أن يقدمه رجل الدين للمجتمع إذا لم يساهم في تخليق الحياة السياسية؟
من جهة أخرى: بأي حق يتم سلب حرية وحق القيم الديني في المشاركة السياسية، هل يتعلق الأمر بقرار مطابق لمبدأ الحق والقانون أم أنه مجرد ردة في وجه ما حققه المغرب من تقدم على مستوى الحقوق والحريات.
ما هو أكيد أن الأمر لا يعدوا أن يكون تعسفا في حق تلك الفئة البسيطة والمقهورة والتي يتم تخييرها بين قبولها سلب حرياتها أو التعرض للتجويع، ألا يعتبر ذلك مسا بحقوق الأفراد دون وجه حق. إن الأمر لمخجل أن تتم ممارسة الضغط والتعسف في مؤسسة كان من المفروض أن تكون مثالا للرحمة بالإنسان واحترام كرامته كيفما كان دينه وعرقه ولونه.
إن حل مشكل استغلال الدين من طرف رجل السياسة لا يتحقق بمصادرة حقوق وحريات فئة معينة، وإنما يتم من خلال منع أي حزب من أن يمارس السياسة باسم الدين، فالسياسة فعل تدبير يعتمد العقل والعلم ويتفاوت الأفراد في تحقيق الهدف منه حسب قدراتهم ومهاراتهم العقلية والفكرية، وهذا هو معيار المفاضلة بينهم، أما الدين فقاسم مشترك لا يمكن لأحد أن يستفرد بامتلاك حقيقته دون الآخرين، وليس لأحد أن يطلب من المواطنين التصويت له لأنه أكثر إيمانا أو تدينا من الآخرين. 
وبهذا يتم تطبيق مبدأ المساواة الذي هو أساس الديمقراطية، حيث يتم اختيار السياسي حسب قدرته في الدفاع عن مصالح المواطن والوطن وحسب كفاءته في تحقيق مسايرة البلاد للتطور التاريخي لا على أساس ادعاءه التقوى والإيمان.

لاتستطيع الدولة في الوقت الراهن أن تمنع أحزابا معينة من ادعاء النضال باسم الدين، لأنها أحبطت كل محاولات ممارسة السياسة باسم العقل ولم يعد لدى الأحزاب أي قدرة على تحفيز الأفراد على التفاعل مع السياسة، ولذلك لم يبقى للأحزاب غير الدين والمال لتحريك المنافسة واقتياد عدد من الأفراد نحو صناديق الاقتراع لإضفاء المشروعية على اللعبة السياسية التي يكاد يصيبها الجمود.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق